من مسجد إيراني إلى مقر لنشر أيديولوجية النظام.. قصة تحول "مركز هامبورغ الإسلامي"
كان المركز الإسلامي في هامبورغ بألمانيا محط اهتمام الصحافة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وقد أُثير حوله الكثير من الجدل، منذ تشكيل مجلس إدارته بحضور جد وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف. واتهم ممثلو "مجلس الشورى الوطني" مؤسسيه بالتسول. فكيف تم بناء هذا المسجد؟
وعلى الرغم من أن مركز هامبورغ الإسلامي قد حظي باهتمام في السنوات الأخيرة، باعتباره جوهر الدعاية للنظام الإيراني في أوروبا الغربية، فإن بناءه المثير للجدل في عام 1953 حتى افتتاحه في عام 1965 اتخذ مسارًا طويلًا ومعقدًا.
الجدير بالذكر أن الحكومة الألمانية، قد حظرت أنشطة المركز الإسلامي في هامبورغ في 24 يوليو (تموز) الجاري، وذلك في بيان رسمي؛ حيث اتُهم هذا المركز بنشر أيديولوجية نظام الجمهورية الإسلامية، ودعم حزب الله اللبناني، والعمل ضد الدستور الألماني.
دور جد ظريف
قبل 70 عاماً، وتحديداً في يوليو 1953، وافق حسين طباطبائي بروجردي، أهم مرجعية لدى الشيعة في عصره، على بناء مسجد في هامبورغ، وكانت فكرة بناء هذا المسجد قد طرحتها عليه مجموعة من الأثرياء الإيرانيين الذين يعيشون في أوروبا.
وعين بروجردي مجلس إدارة مكونًا من تسعة أعضاء لبناء المسجد، وكان أول عضو في مجلس الإدارة، هو الحاج علينقي كاشاني، جد محمد جواد ظريف، وزير خارجية الرئيس الإيراني الأسبق، حسن روحاني (جده لأمه)، والأشخاص الثمانية الآخرون كانوا من التجار ورجال الأعمال في عصرهم.
وفي مقال بعنوان "الدكتور سيد حسين فاطمي نجم في سماء المناضلين المناهضين للاستعمار والاستبداد" ذكر عضو الجبهة الوطنية، ناصر تكميل همايون، أن حسين فاطمي، وزير خارجية حكومة محمد مصدق، من سبتمبر (أيلول) 1952 حتى أغسطس (آب) 1953، كان أحد الرواد والداعمين لبناء هذا المسجد في هامبورغ؛ لأن فاطمي كان يرى أن "الحضارة والمعارف الإسلامية المزدهرة" يجب أن تُستخدم كمعقل لمواجهة الأعداء.
وقام مجلس إدارة بناء المسجد في هامبورغ بشراء أرض بقيمة 250 ألف مارك ألماني، في أكتوبر (تشرين الأول) 1957، وبدأ البناء في فبراير (شباط) من العام نفسه.
واستمر بناء المسجد في هامبورغ، مع بعض الانقطاعات الطويلة، ومع وفاة بروجردي في مارس (آذار) 1961، أصبحت الانقطاعات أطول.
المسجد الإيراني أم مركز هامبورغ الإسلامي؟
وبوفاة بروجردي، الذي أدار تمويل بناء المسجد، غيّر القائمون على البناء مسمى مسجد هامبورغ إلى "مسجد هامبورغ الإيراني"، وحولوها من قضية دينية إلى قضية سياسية، وبدأ مجلس الإدارة عمله الإعلامي تدريجيًا، في سبتمبر (أيلول) 1961، بعد ستة أشهر من وفاة بروجردي.
وفي رسالة مفتوحة إلى الداعية الإيراني الشهير، محمد تقي فلسفي، تناول مجلس الإدارة مسألة بناء المسجد الإيراني في هامبورغ من قِبل وسائل الإعلام الأجنبية، وكتبوا في هذه الرسالة: "إن تعليق بناء المسجد هو هزيمة لا تُعوض أمام الأجانب وضربة قاصمة للكرامة الدينية والوطنية لشعب إيران الكريم".
وبالإضافة إلى ذلك، أشار أعضاء مجلس الإدارة إلى إمكانية توقف أعمال البناء بسبب الديون، وأعلنوا رقم حساب في إيران مطالبين بالمساعدة العامة. وفي رد إيجابي على هذه الرسالة، دعا فلسفي الناس لمساعدتهم.
وأكمل مجلس الإدارة أخيرًا هيكل المسجد، في ديسمبر (كانون الأول) 1962. وفي حفل غريب، قام أولاً محمد حسن سالمي، حفيد أبوالقاسم كاشاني، أحد رموز حركة تأميم النفط، والذي كان طالباً في كلية الطب آنذاك، بقراءة القرآن الكريم. ومن بعده، قام محمد محققي، الممثل الذي عيّنه بروجردي في مسجد هامبورغ، بوصف بناء المسجد وهندسته.
وقال محققي في هذا الحفل: "نحن إيرانيون، وأردنا أن يكون مسجدنا في هامبورغ مثالاً لمساجد بلادنا حتى نظل نتذكر وطننا الحبيب". وفي هذا الحفل تم تركيب تاج من الزهور على شكل "الله" على القبة وشرب الحضور أكوابًا من عصير الكرز بدلاً من النبيذ.
مزيد من الضغط للحصول على المال
وعلى الرغم من اكتمال هيكل المبنى، فإن مجلس إدارة المسجد ظل يطلب من خلال الصحافة المزيد من المساعدة لإكمال بنائه.
وفي هذا السياق، نشرت مجلة "سبيد وسياه" تقارير متكررة عن المساجد الإيرانية في الدول الأوروبية، وكتب مجلس إدارة مسجد هامبورغ، في منشور له، أنه من العار على إيران ألا يتم الانتهاء من بناء المسجد.
ونشرت المجلة المذكورة رسالة من مجلس إدارة المسجد، في عددها 593 الصادر بتاريخ 15 يناير (كانون الأول) 1965، موضحًا فيها أنه بعد وفاة بروجردي، ومن أجل تجنب الكثير من الأضرار، حصلوا على قرض من بنك برينكمان فيرثس في هامبورغ، وبهذا أكملوا أعمال هيكل للمسجد.
وأكد مجلس الإدارة كذلك أن المسجد مدين للبنك بمبلغ 172 ألف مارك، و27 ألف مارك لشركات المقاولات، وطالب بـ 720 ألف مارك للمضي قدماً في تنفيذ المشروع.
أشار المجلس، في هذه الرسالة أيضًا، إلى تقرير صحيفة "همبرغر آباند بلات" بعنوان "المسجد المهجور"، وقال إن سلطات هامبورغ تضغط عليه لإنهاء البناء، وإن كرامة إيران وسمعتها في ألمانيا قد تتضرر، وفي نهاية هذه الرسالة، طلب من إيران، حكومة وشعبًا المساعدة في استكمال أعمال "المسجد الإيراني".
200 ألف تومان من الموازنة السنوية
ومن المثير للاهتمام أن مجلس إدارة المبنى والصحافة نشرا هذه المواد في وقت مراجعة الموازنة السنوية في المجلس الوطني الإيراني، وبعد عشرين يومًا من نشر رسالة مجلس الإدارة في مجلة "سبيد وسياه"، انشغل المجلس الوطني بمراجعة مشروع قانون موازنة 1965 في جلسته المنعقدة بتاريخ 4 فبراير 1965، وجاء في المادة الثانية ما يلي: "يجوز للمجلس الوطني تخصيص مبلغ مليوني ريال من فائض موازنة المجلس عام 1965 للمساعدة في استكمال بناء المسجد الإيراني في هامبورغ...".
وكان مبلغ المليوني ريال في ذلك الوقت يعادل نحو 100 ألف مارك ألماني، بينما المبلغ الذي طلبه مجلس إدارة المسجد في رسالته 720 ألف مارك ألماني، ومن الواضح أن المبلغ المخصص كان قليلاً جدًا ولا يلبي احتياجاتهم.
ومع ذلك، عارض البرلمانيون هذا الرقم، وفي هذا الاجتماع عارض عضو المجلس الوطني في ذلك الوقت، حسن مصطفوي نائيني، المادة الثانية، قائلاً: "إن المباني الخيرية، مثل المساجد وخزانات المياه، التي بُنيت في الماضي كانت بجهود المحسنين، وفي زمن آبائنا لم تكن هناك حكومة ولا ميزانية".
وأكد مصطفوي كذلك أن رجال الأعمال الإيرانيين في هامبورغ لديهم إمكانات مالية كثيرة، مضيفًا: "لا أدري ماذا يعني أن الأموال تُرسل من ميزانية المجلس الوطني إلى مسجد يريدون استخدامه وأداء فرائضهم الدينية فيه".
وقال عضو المجلس الوطني، محمد إسماعيل معيني زند، ردًا على مصطفوي، إن حالة المسجد مزرية للغاية ويجب مساعدته.
وأضاف عضو لجنة الحسابات بالمجلس الوطني، عباس أسدي سميع، ردًا على مصطفوي أيضًا: "تنص قواعد وأنظمة البلديات الألمانية على أنه إذا لم يتم بناء المبنى خلال فترة معينة ولم يكتمل، فإن المبنى سيتم بيعه بالمزاد، وهناك دول أخرى اقترحت شراء هذا المسجد غير المكتمل وإكماله باسمها، وبالإضافة إلى كونه نقطة تجمع للمسلمين الإيرانيين في هذا الجزء من ألمانيا، فإن هذا المسجد يعد مثالاً للذوق والفن المعماري الإيراني الذي يمثل خصائص الإيرانيين في بلد أجنبي".
وبعد ذلك، ذكر أسدي سميع الأنشطة الخيرية للابن الأكبر لشاه إيران، محمد رضا بهلوي، وقال إن الشاه ساهم أيضًا بمبلغ في هذا المسجد، ولهذا السبب قرروا المساعدة من ميزانية البرلمان مثل العديد من المنظمات الأخرى التي مولت هذا المسجد. وتم التصويت حول هذه المادة والموافقة على تخصيص مائتي ألف تومان للمسجد من موازنة المجلس الوطني.
هروب محمد بهشتي
وبعد مرور عام على أحداث 1964، تم افتتاح المسجد الإيراني في هامبورغ عام 1965، وتزامن افتتاح المسجد مع رحلة رجل الدين والسياسي الإيراني، محمد بهشتي، إلى ألمانيا.
وقال بهشتي، في مقابلة إنه نظرًا لذكر اسمه في ملف اغتيال السياسي الإيراني البارز، حسن علي منصور، على يد مجموعة "فدائيان إسلام" تم توفير جواز سفر له من قِبل المرجع الديني، أحمد خونساري، وتوجه إلى ألمانيا في مارس 1965 لإدارة المسجد الإيراني في هامبورغ.
وكان أحد الإجراءات الأولى التي اتخذها بهشتي بعد وصوله إلى هامبورغ هو تغيير اسم المسجد؛ حيث قام بتغيير اسمه من "مسجد هامبورغ الإيراني" إلى "مركز هامبورغ الإسلامي"، وبقي الاسم حتى يوم إغلاقه يوم الأربعاء الماضي من قِبل السلطات الألمانية.
وكان بهشتي منخرطًا في تطوير الأنشطة الأيديولوجية والدينية في هذا المركز حتى يونيو (حزيران) 1970، وبحسب قوله: "نعمل على إنشاء منظمات إسلامية للطلاب".
بعد بهشتي، ترأس محمد مجتهد شبستري المركز الإسلامي في هامبورغ حتى ثورة 1979.
وتغيرت وظيفة المسجد الإيراني الكبير في هامبورغ، منذ أن غيّر بهشتي اسمه، وحتى صيف عام 2024، عندما أغلقت الحكومة الألمانية المركز رسميًا؛ حيث كان مكانًا لنشر أيديولوجية نظام الجمهورية الإسلامية.