مفاوضات إيران في جنيف.. قبول للقواعد الدولية أم تكرار للعبة قديمة؟
تعتزم إيران إجراء جولة جديدة من المفاوضات مع ألمانيا وفرنسا وبريطانيا يوم الجمعة 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في مدينة جنيف بسويسرا. هذه المحادثات، التي وُصفت بأنها "حوار من أجل الحوار"، لا يبدو أنها ستتضمن أجندة محددة أو خارطة طريق واضحة وفقًا لما تم التصريح به حتى الآن.
ومع ذلك، تأتي هذه الجولة في وقت حساس مليء بالضغوط والتحديات الإقليمية والدولية، حيث يتوقع المحللون أن تكون هذه المفاوضات بمثابة اختبار لقدرة إيران والدول الأوروبية على تجاوز الخلافات وإيجاد مسار جديد للحوار.
تصريحات ألمانية حول أولويات المحادثات
خلال مؤتمر صحافي، يوم الاثنين 24 نوفمبر (تشرين الثاني)، صرّح كريستيان فاغنر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية، بأن أوروبا تسعى لمناقشة قضايا أساسية تشمل البرنامج النووي الإيراني، استخدام طهران للوكلاء الإقليميين في الشرق الأوسط، الدور الذي تلعبه إيران في زعزعة الاستقرار الإقليمي.
هذا التوجه يعكس المخاوف الأوروبية المستمرة من التهديدات التي يشكلها النظام الإيراني على أمن المنطقة والعالم.
هل يمكن لهذه المفاوضات أن تكون نقطة تحول؟
في ظل الضغوط الدولية المتزايدة، قد تشكل محادثات جنيف فرصة لتحسين العلاقات بين إيران وأوروبا. ومع ذلك، يبدو أن تحقيق اختراق كبير في هذه المفاوضات ليس أمرًا مضمونًا.
تشير التقارير إلى أن إيران تسعى إلى تقديم تنازلات محدودة تخفف من وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، لكنها لا تزال تواجه صعوبة في تقديم حلول شاملة تعالج القضايا العالقة التي تثير قلق المجتمع الدولي.
الدول الأوروبية، من جهتها، قد تستغل هذه الجولة للمطالبة بتنازلات أوسع تشمل التزامات واضحة بشأن البرنامج النووي، الحد من النفوذ الإقليمي، واحترام حقوق الإنسان. وهذا يثير التساؤل حول مدى استعداد طهران للالتزام بهذه الشروط وسط الأزمات الداخلية التي تعصف بالنظام.
الضغوط الدولية والأزمات الداخلية الإيرانية
لا يمكن فهم سياق المفاوضات دون النظر إلى المشهد الداخلي والدولي الذي يحيط بإيران.
داخليًا، تعاني البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، نتيجة سنوات من العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية، حيث تفاقمت هذه الأزمة في الأشهر الأخيرة مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية والمطالبات بالإصلاح السياسي والاجتماعي.
على الصعيد الدولي، تتزايد العزلة المفروضة على إيران مع تصعيد ملفها النووي وتدخلاتها في شؤون الدول الأخرى.
آخر هذه الضغوط تجلى في قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الصادر يوم 21 نوفمبر (تشرين الثاني)، الذي أدان طهران لعدم تعاونها مع جهود الوكالة لتوضيح برنامجها النووي.
دعم القرار الأوروبي لهذا التحرك يبرز رغبة الغرب في توحيد الصفوف لمواجهة التحديات التي يشكلها النظام الإيراني.
هذا القرار قد يكون تمهيدًا لتفعيل "آلية الزناد"، التي ستعيد فرض عقوبات دولية شاملة على إيران بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وبالتالي، تواجه طهران معضلة كبرى: إما تقديم تنازلات حقيقية تثبت سلمية برنامجها النووي، أو الاستعداد لتحمل تبعات عزلة دولية أشد.
أجندة المحادثات: ملفات معقدة وسياقات متشابكة
رغم غياب تفاصيل واضحة عن أجندة المحادثات، يتوقع أن تكون القضايا التالية على رأس المباحثات:
• البرنامج النووي الإيراني: يمثل هذا الملف حجر الزاوية في أي مفاوضات بين إيران والغرب. يُطالب الأوروبيون طهران بتقديم شفافية أكبر بشأن أنشطتها النووية، وضمان عدم تجاوز الحدود المسموح بها في اتفاقية الضمانات.
• الدور الإقليمي لإيران: دعم طهران للوكلاء الإقليميين مثل حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية يظل نقطة خلاف رئيسية. مع تزايد الضغوط الدولية، قد تكون إيران مضطرة لمناقشة هذه الملفات، وإن كان ذلك بغرض كسب الوقت.
• حقوق الإنسان: السجل الإيراني في قمع الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان لا يزال يشكل ورقة ضغط قوية بيد الأوروبيين، رغم أنه لم يُذكر رسميًا في التصريحات الأخيرة.
برنامج إيران النووي بين الشفافية والضغوط
القرار الأخير لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية يمثل نقطة تحول في تعامل المجتمع الدولي مع الملف النووي الإيراني.
القرار دعا الوكالة إلى تقديم تقرير شامل بحلول الربيع المقبل، حول مدى تعاون طهران مع الجهود الدولية.
إذا لم تحقق إيران تقدمًا ملموسًا، فقد تُفعل "آلية الزناد"، مما يعيد فرض عقوبات دولية قد تعزلها اقتصاديًا وسياسيًا.
قد يحاول النظام الإيراني استخدام هذه المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي لعام 2015، عبر تقديم بعض التنازلات الرمزية. ومع ذلك، يظل التساؤل قائمًا حول جدية إيران في تقديم التزامات حقيقية، ومدى استعدادها لتحمل التكلفة السياسية الداخلية لهذه التنازلات.
توترات إقليمية متزايدة
تعقد المحادثات في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، خاصة بين إيران وإسرائيل.
الهجمات الأخيرة التي شنتها تل أبيب على مواقع إيرانية في سوريا، والرد الإيراني بإطلاق صواريخ وطائرات مسيرة نحو أهداف إسرائيلية، ساهمت في تصعيد الأوضاع.
أوروبا، التي تعتبر أمن إسرائيل خطًا أحمر، قد تستخدم هذه التطورات للضغط على إيران لخفض تصعيدها الإقليمي.
الدول الأوروبية قد تُطالب إيران بالحد من أنشطتها الإقليمية العدائية، خاصة فيما يتعلق بدعم الميليشيات المسلحة في سوريا والعراق واليمن ولبنان. هذا المطلب قد يكون شرطًا أساسيًا لأي تفاهم مستقبلي.
حقوق الإنسان: ملف لا يمكن تجاهله
على الرغم من أن تصريحات المسؤولين الأوروبيين لم تشر صراحة إلى ملف حقوق الإنسان، إلا أن هذا الملف يظل حاضرًا في خلفية أي حوار مع إيران.
السياسات القمعية التي انتهجها النظام الإيراني ضد المتظاهرين والنشطاء، وارتفاع معدلات الإعدامات، تجعل من حقوق الإنسان قضية حساسة تضغط بها أوروبا لتحقيق مكاسب على طاولة المفاوضات.
تحديات إيران في جنيف
في ظل الوضع الراهن، تبدو طهران في موقف تفاوضي ضعيف. مع تزايد العزلة الدولية والأزمات الاقتصادية والسياسية الداخلية، يصعب على المفاوضين الإيرانيين أن يقدموا صورة عن نظام قوي قادر على فرض شروطه.
هذا الضعف قد يجبر طهران على تقديم تنازلات أكبر من المتوقع، وهو ما قد يزيد من التوترات داخل النظام الإيراني نفسه، حيث تختلف النخب السياسية حول كيفية التعامل مع هذه التحديات.
موقف أوروبي أكثر شمولية
بالنسبة للدول الأوروبية، لا يقتصر الحوار مع إيران على الملف النووي فقط. إذ تسعى أوروبا إلى تحقيق اتفاق شامل يعالج كافة القضايا الخلافية، بما في ذلك تطوير البرنامج الصاروخي الإيراني، التهديدات الإقليمية، وسلوك طهران تجاه إسرائيل.
خاتمة
بينما تُعقد الآمال على محادثات جنيف لإحداث تغيير إيجابي في العلاقات بين إيران وأوروبا، تظل التحديات قائمة والمعوقات كبيرة.
النجاح في هذه المفاوضات يعتمد على استعداد إيران لتقديم تنازلات جوهرية تعكس قبولها بالقواعد الدولية.
ومع ذلك، يبدو أن الطريق نحو اتفاق شامل وطويل الأمد لا يزال مليئًا بالعقبات، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية الإيرانية والضغوط الخارجية المتزايدة.